• الأحد 31 مايو 2020 - 12:42
  • 1005

   باحث في شؤون التنمية والمجتمع المدني

 

بدت أزمة فيروس كورونا المستجد، (كوفيد-19)، منذ اندلاعها، كنوع جديد من الأزمات، لم يَرَ العالم لها مثيلًا من قبل، في ظل ما حققته البشرية من تقدم هائل في شتى مجالات الحياه، ما يجعل لتلك الازمة شكلا مختلف عن باقي الازمات التي مرت بالبشرية، وخاصة علي صعيد التواصل والتفاعل بين البشر ، فقد ولدت تلك الازمة آثار وتداعيات خطيرة، من المنتظر ان تشكل حياتنا في المستقبل القريب .

 

   فعلي الصعيد العام، من المنتظر ان تؤدي تلك الازمة، الي اعادة احياء فكرة الدولة الوطنية، والالتفاف حولها، و الانكفاء على الذات في الانتاج، والتفاعل الاجتماعي، مقابل إنحسار فكرة العولمة وضعف تأثير ادواتها ، و على صعيد السياسات الدولية، من المتوقع حدوث تغير في انمط العلاقات الدولية،وتوزيع موازين القوى و تركيبة التكتلات الاقتصادية والتحالفات السياسية ، ودرجه أهمية دور  المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة.

 

   وعلي صعيد التنمية الدولية ، فمن المتوقع  أن تؤثر الازمة في انكماش خطط التنمية،  لتباطؤ حركة الاقتصاد، وتراجع معدلات نمو الاقتصاد العالمي ، ما سيؤدى إلى انخفاض حجم الاستثمارات الدولية، وخاصة المخصص منها لتمويل خطط التنمية فى الكثير من المناطق، وتعتبر دول العالم الثالث، الاكثر تضررا نتيجة لذلك.

 

   وعلى الصعيد المحلى، و أركز  هنا على الحالة المصرية، فمن المتوقع ان تؤثر الازمة في المستقبل القريب ، على ادارة التنمية من حيث، ترتيب اولويات التنمية، وعلي آليات إدارتها، فبالنسبة لأولويات التنمية، اظهرت تلك الازمة اهمية الجوانب الصحيه والتعليمية، كقضية محورية في التنمية، بل من المتوقع أن تكون على قمة القضايا ذات الاولوية خلال السنوات القادمة، فقد أظهرت الازمة، اهمية تنمية منظومة الصحة والتعليم، والاهتمام بتطوير الموارد البشرية فيهما، وهو ما أصبح مطلبا عاجلا، نتيجه لتداعيات الازمة، وعتبارها قضية أمن مجتمع.

 

   كما أظهرت الازمة، ضرورة ان تمتلك الدولة المصرية منظومة بحث علمي قوية، والاسراع في بناء أساسات مجتمع المعرفة، وتوظيفه لخدمة قضايا التنمية، واستكمال ما بدأته الدولة المصرية في هذا المنحنى خلال السنوات الماضية، من رقمنة الخدمات الحكومية، وبناء قواعد بيانات متكاملة ، و تطوير مراكز البحث العلمي، وهى خطوات جيده وان كنا في حاجه إلى الإسراع باستكمال تلك المنظومة ، للارتكاز عليهما في إدارة خطط التنمية.

 

    وهناك جانب اخر، لم يأخذ حظه في خطط التنمية خلال السنوات الماضية ، فمن نتائج تداعيات الازمة، تسليط الضوء علي اهمية الجانب الثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية، وخاصة لدي الشباب، اعتقد انه ومع تعزيز فكره الدولة الوطنية، سوف يتم النظر لهذا الجانب بعين الاعتبار وخاصة مع انحسار دور الثقافة العالمية، التي تعتبر أحد منتجات العولمة التي تهدد فكرة الدولة الوطنية. ومن التداعيات الايجابية للازمه علي سلوك المواطنين، اتجاههم ، الي تبنى سلوك رشيد نحو الاستهلاك، وهو ما يمكن أن يستثمر مستقبلا، لتقنين الاستهلاك داخل المجتمع، مع احلال ثقافة الاستثمار والانتاج، بدلا من الاستهلاك المستنزف للموارد.

 

   اما على صعيد آليات ادارة التنمية، فقد اظهرت الازمة اهمية المشاركة المجتمعية،وان مؤسسات الدولة لن يمكنها منفرده التصدى لادارة التنمية، او مواجهة اي أزمات بدون  المشاركة المجتمعية، فمن تداعيات الازمة، اظهار دور مؤثر غير مستثمر بشكل كامل، حتى الآن، دورا يمكن أن يحدث قيمة مضافة  لعوائد التنمية، لو احسن استثماره، الا وهو دور المنظمات الأهلية، من منطلق مسؤولياتها داخل المجتمع كشريك حقيقي  فى مساندة خطط التنمية، وهو دورا اثبتت التجربة انه لن يتحقق الا بتوفر شرطين، اولا:ان تمتلك تلك المنظمات القدرة على الأداء، ثانيا: توفير المساحة المناسبة لها  داخل المجتمع للتحرك.

 

  فبرغم ان بعض المنظمات الاهليه قدمت نموذجا رائعا، خلال تلك الازمة، بمشاركة مؤسسات الدولة، فى التصدى لتلك الجائحة، مثال الدور الذي قامت به كلا من :صندوق تحيا مصر ،بنك الطعام ، مؤسسة مصر الخير ،الاورمان ، صناع الخير، ورسالة .....ألخ وذلك ليس علي سبيل الحصر، فهناك منظمات أخرى، فهذه المنظمات، استطاعت التحرك سريعا لمواجهة تداعيات الازمة، وان تلعب دورا هاما فى التصدى لها و لاثارها السلبية، من خلال توفير آلاف الاطنان من المواد الغذائية للاسر الفقيرة، وتقديم الدعم المالي للعمالة اليومية، التي تضررت من الازمة في جميع المحافظات.

 

كما كان لها دورا مساندا لوزارة الصحه، فى توفير المعدات، و الاجهزة الطبية، والامدادات الصحية، اللازمة لتجهيزات مستشفيات العزل، بالاضافة الى الدور الذى قاموا به من توعية المواطنين، بكيفية الحماية الشخصية من هذه الجائحة. هذا الدور ما كان يمكن ان تقوم به تلك المنظمات، لولا انها تمتلك القدرة على الأداء، و بمساندة مجتمعية، وبدعم من القطاع الخاص، و بالتنسيق مع مؤسسات الدولة. فما قامت به تلك المنظمات من مجهودات خلال تلك الازمة، يقدم لنا نموذجا تنمويا لكيفية التكامل، والتنسيق بين شركاء التنمية داخل المجتمع، وهو مايجب دراسة للبناء علية مستقبلا، في التصدي لقضايا مجتمعية أخرى، أو إعادة تطوير ألادوار التي يمكن ان تلعبها المنظمات الأهلية، داخل المجتمع.

 

   ولتوضيح المقصود بالقدرة على الاداء، والذي طرح كشرط لتطوير دور المنظمات الأهلية كشريك في التنمية، ما اتخذته مثلا مؤسسة مصر الخير ، من إجراءات للتصدى للازمة، بسرعة التحرك، والتخطيط، والأعداد، وتوفير قواعد البيات، حول المستحقين والعمالة اليومية، وتعبئة المجتمع لدعم المجهودات التي ستتم، ما يشير الي القدرة المؤسسية، كما نجد ان قيادة المؤسسة، سرعان ما اتخذت قرارا استراتيجيا،  بالتحول سريعا، من نمط التنمية الذي تنتهجه في برامجها المختلفة، الى نمط الاغاثة، وبشكل مؤقت، وحتى نهاية الازمة، وتسخير كل طاقتها، ومواردها لتلبية احتياجات المستحقين الأكثر تضررا، بتوفير المؤن الغذائية، والمساعدات المالية، ودعم مستشفيات العزل، هذا الأداء المتميز ما كان يحدث، الا ان المؤسسة تمتلك القدرة على الأداء، التي تضمن لها سرعة التحرك بتلك الحرية، وهي احد الميزات التى تنفرد بها المنظمات الاهلية عن باقى منظمات المجتمع الأخرى لو اوتيح لها ذلك اي القدرة على الأداء ومواكبة الحدث سريعا.

 

    هذه المنظمات الاهلية الوطنية، التي تملك القدرة على الأداء بهذا النمط، تعد علي اصبع اليد الواحده، فلو علمنا ان هناك اكثر من (56 الف) جمعية ومؤسسة اهلية مسجلة في مصر، فهل لنا ان نتخيل لو ان السواد الاعظم من تلك المنظمات الأهلية، كان فاعلا فى تلك الازمة، او فى عملية التنمية بشكل عام، ولو على مستوى نطاقها الجغرافي الضيق.

 

   فقد اوضحت الازمة، اهمية العمل على تنمية العمل الأهلى في مصر، بما له من قيمة مضافة، يمكن أن يحدثها في قضية التنمية، ولن يتم ذلك الا باطلاق حرية حركة المنظمات الأهلية، داخل المجتمع برفع القيود التي تعوقها، سواء الداخليه، الناتجه عن انخفاض القدرة المؤسسية على الاداء، او مجتمعيا، نتيجة لفقد مساحة التحرك بحرية، ولا يتعارض هذا التوجه بالطبع مع ان يكون هناك  قانون واجراءات ملزمة، تضمن وجود ممارسات سليمة لها داخل المجتمع، والمشاركة الجدية فى عملية التنمية، فالمنظمات الاهلية قوة وقيمة مضافة فى ادارة عملية التنمية، بجانب مؤسسات الدولة، فهل يمكن ان تكون تلك الازمة، بدايه لتحسن صورة المنظمات الأهلية، لدى مؤسسات الدولة ؟ وان نجد في المستقبل القريب لائحة للقانون المنظم للجمعيات، يلبى طموحاتنا المستقبلية.

 

    كما أظهرت الازمة، اهمية الدور الذى يمكن ان يلعبه المواطنون داخل المجتمع، و التفافة حول الدولة المصرية ومساندتها، ما يؤكد ويشير الي أهمية ان يكون هناك تفعيل حقيقي لدور الكيانات الشعبية، واصد هنا اجهزة الحكم المحلى الشعبي، ما يتطلب بسرعة اجراء الانتخابات المحلية الشعبية و تشكيل المجالس الشعبية المحلية في أقرب وقت لضمان تواصل الدولة مع جميع أجزاء المجتمع. هذا بجانب اهمية تنمية التطوع داخل المجتمع، وخاصة بين الشباب، فهذه الطاقة مازالت غير مستثمرة بالشكل الامثل حتى الان، ووجب تنظيمها والبدء فى استثمارها، وتوجيهها نحو التنمية، ومن الأفكار المطروحه لتحفيز الشباب، و اعدادهم كوادر مجتمعية في المستقبل، تأسيس مجالس محلية استشارية، من الشباب بكل محافظة، تحت رئاسة المحافظ، يشكل من قيادات الشباب، من شباب الباحثين بالجامعات، والاحزاب، والعمل العام والاهلي، يقوم بدور المجالس المتخصصة، داخل المحافظات، والعمل وفق مجموعة من اللجان، تقوم بتقديم الدعم لخطط تنمية المحافظات، من خلال الجهات التي ينتمون لها، وللأسف  تقدمت بهذا المقترح منذ سنتين، لاحد الجهات الرسمية بالدولة بتلك الفكرة، وكان القرار تأجيل تنفيذها، أرى انه قد حان العمل على تنفيذها، لفوائدها الكثيره على الشباب والمجتمع.

 

    اما علي صعيد تمويل التنمية، فقد كشفت الازمة اهمية الاعتماد على الذات، وان تستكمل الدولة المصرية تنمية مصادر التمويل الذاتية، لتمويل الموازنه العامة، وبالتالي خطط التنمية، وخاصة وان مصر قد حباها الله بالعديد من الثروات، التى تحتاج الى التنمية والاستثمار الامثل، وان يكون هناك اكتفاء ذاتي من الانتاج للاحتياجات الأساسية، وعلى رأسها المنتجات الزراعية والغذاء، وان كنت اعتقد، انه يقع ضمن اولويات الدولة  المصرية الان، متمثلا في المشروع القومي للصوب الزراعية، وزيادة مساحه الأرض الزراعية، والمشروع القومي لتطوير صوامع الغلال.

 

     السابق كان قراءة سريعة، لتداعيات أزمة جائحة كوفيد - 19 علي ادارة التنمية، ورغم ان بعض تلك التداعيات يعتبر تحديا، الا ان الكثير منها يعتبر فرصه، لو احسن استثمارها، ومنها اعادة صياغة عقدا اجتماعي جديد بين الدولة والمنظمات الاهلية.

مواضيع مرتبطة

التعليقات